الاثنين، 24 يناير 2011

القواعد الفقهيّة المؤثرة في أحكام العمل الطبي (1)



القواعد الفقهيّة المؤثرة في أحكام العمل الطبي (1)

بقلم: هاني بن عبد الله بن محمد الجبير

إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده ولا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم . أما بعد:

فهذه ورقة علمية مقدمة لمؤتمر : تطبيق القواعد الفقهيّة على المسائل الطبيّة ويتضمن جمعًا لجملة من القواعد والضوابط الفقهية المؤثرة في أحكام العمل الطبي، أو استند عليها في إصدار قرارات أو فتاوى حولها.

وقد جمعت في هذه الورقة ثلاثةً وثلاثين قاعدة وضابطًا أصليًا وأشرت في ثنايا كلامي حولها، لقواعد أخر، ولا شك أنه يمكن استنباط المزيد منها إلا أنّ هذا القدر هو المناسب لوقت المؤتمر وحجم الورقة المقدمة فيه .

وقد كان ترتيب هذه الورقة على النحو التالي:

التمهيد في تعريف القواعد والضوابط الفقهيّة.

المبحث الأول: القواعد الخمس الكبرى.

المبحث الثاني: القواعد والضوابط المتعلّقة بحكم التداوي وآدابه وضوابطه.

المبحث الثالث: القواعد والضوابط المتعلّقة بابتداء الحياة ونهايتها.

المبحث الرابع: القواعد والضوابط المتعلّقة بالمعالجة والجراحة.

والله تعالى الكريم أسأل أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم وصلى الله على محمد وآله وسلم.

تمهيد

تعريف القواعد الفقهيّة


القواعد جمع قاعدة .

والقاعدة في اللغة : الأساس، وقواعد البيت : أسسه قال تعالى "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت" [البقرة : 127].

وتطلق القاعدة على الأمر الكلي الذي ينطبق على جزئياته.

وأما القاعدة الفقهيّة فعرّفت بأنها : أمرٌ كُلّي منطبق على جزئيات موضوعه.

كما عرفت بأنها: حكمٌ أكثريّ لا كلي ينطبق على أكثر جزئياته لتعرف أحكامها منه.

ومن أحسن تعاريف القاعدة الفقهيّة أنها: قضيّة فقهيّة كلية جزئياتها قضايا كلية.

فالقواعد الفقهيّة تختص بأنّها كلية، أي : تتضمن حكمًا شاملاً لفروع كثيرة بحيث لا تتخلف أي جزئية غالبًا.

كما أنّ القواعد تتميز بكونها عامة غير موجهة إلى شخص بذاته ولا لواقعة معينة.

وهي أيضًا مختصة بالأحكام الشرعية التي تتعلق بأعمال المكلفين وتصرفاتهم، ومستندة إلى الأدلة الشرعية.


تعريف الضوابط الفقهيّة


الضوابط جمع ضابط.

والضابط مأخوذ من الضبط وهو المحافظة واللزوم، والإتقان.

وعرفت الضوابط الفقهيّة بأنها: حكم كلي ينطبق على جزئيات.

وعلى هذا فلا فرق بين القواعد والضوابط.

ومن أهل العلم من فرق بينهما بأن الضابط يجمع فروعًا وجزئيات من باب واحد، والقاعدة تجمع فروعًا من أبواب شتى.

وبناء عليه عرفوا الضوابط الفقهيّة بأنّها: ما اختصّ بباب وقُصِد به نظم صور متشابهة.

فمثلاً: قاعدة الأمور بمقاصدها قاعدة كلية تدخل في أبواب كثيرة لتعلقها بمسائل العبادات على أنواعها والمعاملات والإيمان والطلاق وغيرها .

وضابط إذا دبغ الإهاب طَهُر، يمثّل ضابطًا فقهيًّا لكونه يغطي بابًا مخصوصًا في الفقه.


القواعد الفقهيّة الخمس الكبرى


هذه القواعد الفقهية الكبرى هي أمهات القواعد، والفقه الإسلامي – بغض النظر عن قالبه المذهبي – تحكم بُنيته هذه القواعد، فهو منطلق منها، ولذا يكثر أن يذكرها المؤلفون في القواعد الفقهية منفردةً لأهميتها.

وقد جمع الناظم هذه القواعد بقوله:

واعلم بأنَّ الفقه مبناه على *** خمس قواعد إذا ما تُجْتَلى

لا يرفع اليقين شكٌّ، والضرر *** يُنفي، وتجلب المشقّة اليسر

وتحكم العادات حيث لا تجور *** وبالمقاصد تبيّن الأمور

وفي هذا الفصل سنستعرض هذه القواعد التي استقيناها لكونها ترجع إليها كل أحكام الفقه، وفروعها لا تنحصر، ولذا سأكتفي بما تيسّر من أمثلتها .


(1) قاعدة: (الأمور بمقاصدها)

- ومعناها: أن الحكم الذي يترتب على أمرٍ يكون على مقتضى المقصود من ذلك الأمر، فأعمال الإنسان إنما تترتب عليها نتائجها وأحكامها الشرعية تبعًا لمقصود الشخص وهدفه من العمل .

- ودليلها قوله صلى الله عليه وسلم : ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدينا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى هاجر إليه).

- ومن التطبيقات المتعلّقة بهذه القاعدة:

1- المقصود من إذن المريض للطبيب بإجراء عملٍ طبي، هو رضاه وموافقته عليه، وبناء على ذلك فكل ما يدل على الرضى والموافقة فهو كاف في حصول الإذن؛ لأن كل ما يعبّر عن الإرادة والقصد تعبيرًا جازمًا. يقوم مقام النطق باللسان.

قال ابن تيمية: ( الإذن العرفي في الإباحة أو التمليك أو التصرّف بطريق الوكالة، كالإذن اللفظي، فكل واحد من الوكالة والإباحة ينعقد بما يدل عليها من قولٍ أو فعل، والعلم برضى المستحق يقوم مقام إظهاره للرضى).

ومما يدل على اعتبار الإشارة طريقًا من طرق التعبير عن الإذن الطبي، ما جاء عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:لددنا رسول الله عليه وسلم فأشار أن لا تلدّوني فقلنا: كراهية المريض للدواء، فلّما أفاق قال: ألم أنهكم أن لا تلدوني ؟ لا يبقى أحدٌ منكم إلاّ لُدَّ ).

ففي هذا الحديث أن الإشارة المفهمة كصريح العبارة في هذه المسألة.

2- لا شك أن وظيفة الطب مساعدة المريض على الشفاء من الأسقام التي تعتوره، ولذا فإن الطبيب عند وقوع الخطأ منه يكون ضمانه ماليًا، ولكن لو تعمّد الطبيب الجناية على المريض، بأن قصد قتله، أو قصد القيام بما يفض لهلاكه أو تلف عضو من أعضائه؛ فإنّ حكمه حكم غيره ممن يجنى الجناية العمديّة قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى". [البقرة:178].

قال الدسوقي: "وإنّما لم يقتصّ من الجاهل – يعني الطب – لأنّ الغرض أنّه لم يقصد ضررًا، وإنّما قصد نفع العليل أو رجا ذلك. وأمّا لو قصد ضرره فإنّه يقتصّ منه".

3- أباحت الشريعة للطبيب أن يباشر بدن المريض ويعالجه لجلب المصالح المباحة فقط أو دفع المفاسد عنه أمّا حين يكون مقصود الطبيب من الإجراء مخالفًا لذلك فإنه لا يحل له مباشرة بدن المريض، لأنّ جسد الإنسان ملك لله تعالى، ولا يحق لأحدٍ أن يتصرّف في ملك بما يحرّمه مالكه، وذلك مثل العمليات التجميلية المحرمة، مثل التي يقصد بها تشبه الرجال بالنساء، أو تغيير الصورة فرارًا من العدالة ونحو ذلك .


(2) قاعدة: "لا ضرر ولا ضرار"


- ومعناها : أنه لا يجوز الإضرار ابتداءً؛ لأنّ الضرر ظلم والظلم ممنوع، كما لا يجوز مقابله الضرر بمثله فليس لأحد أن يلحق ضررًا بغيره، وإذا وقع الضرر فلابد أن يزال.

- ودليلها قوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار".

- ومن التطبيقات المتعلّقة بهذه القاعدة:

1- فصل الخلايا البييضة الملقّحة بعد الانقسام الأول أو الثاني، أو ما يليه لقصد استعمالها لإحداث الحمل في فترة الزوجية جائز، وأما حفظ وتجميد الخلايا المأخوذة منها فقد أجازها بعض الفقهاء إذا لم يوجد ضرر من الحفظ أو التجميد واعتمد على إجراءات موثوقة في الحفظ لمنع اختلاط الأنساب.

وملحظ الإباحة والتحفظ منع الضرر ورفعه.

2- يجوز أخذ عضو من جسم إنسان حي وزرعه في جسم إنسان آخر مضطر إليه لإنقاذ حياته، أو استعادة وظيفة من وظائف أعضائه الأساسية دفعًا للضرر عنه، بشرط أن لا يضر أخذ العضو من المتبرع به ضررًا يخل بحياته العاديّة؛ لأنّ الضرر لا يزال بالضرر.

3- يجب على الزوجين في حال إصابة أحدهما بمرض مُعْدٍ (كنقص المناعة المكتسبة) أن يخبر الآخر عنه، وأن يتعاون معه في إجراءات الوقاية منه كما أن للزوجة طلب الفرقة من زوجها في حال إصابته به.

منعًا للضرر عنها. ولكن حقها في حضانة أولادها لا يسقط بإصابتها به لعدم انتقال ذلك المرض بالحضانة والإرضاع.


(3) قاعدة: ((العادة محكّمة))


- ومعناها: أن العادة والعرف يجعل حَكَمًا فتخضع لها أحكام التصرفات، فتثبت الأحكام على وفق ما تقتضي به العادة أو العرف إذا لم يكن هناك نص شرعي مخالف لتلك العادة .

- ودليلها : قوله تعالى: "وعلى المولود له رزقهنّ وكسوتهن بالمعروف" [البقرة:233].

وقول النبي صلى الله عليه وسلم لهند بنت عتبة: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف" .

- ومن التطبيقات المتعلّقة بهذه القاعدة:

1- أن تولّد من فعل الطبيب المعتاد الموافق للأصول النظرية والعملية للطب حسب ما تعارف عليه أهل الاختصاص – تلف أو أذى، فإنّ الطبيب لا يضمنه.

2- إذن المريض للطبيب بعلاجه، لا يتناول من العلاجات إلا ما جرت به العادة، فإذا كانت العادة أن التدخل الجراحي يحتاج لإذن آخر غير الإذن المطلق بالعلاج، فلابد من أخذ إذن المريض قبل الجراحة، لأن العادة محكمة.


(4) قاعدة: "المشقّة تجلب التيسير"


- ومعناها : أنّ الأحكام التي ينشأ عن تطبيقها حرج على المكلف، ومشقّة في نفسه أو ماله فالشريعة تخففها.

- ودليلها : قوله تعالى "يريد الله بكم اليسر" [البقرة:185] . وقوله تعالى "وما جعل عليكم في الدين من حرج" [الحج:78] .

- ومن التطبيقات المتعلّقة بهذه القاعدة:

1- الإسلام يرغب في زيادة النسل وتكثيره لأن ذلك يقوي الأمة، ويزيدها منعةً وعزّة، لكن إذا تسبب ذلك في مشقة أو أذى يلحق الزوجين أو أحدهما، فإن لهما أن ينظما النسل طبقًا لما تقضي به الضرورة المتروك تقديرها لهما.

2- انكشاف المرأة على غير من يحل شرعًا بينها وبينه الاتصال الجنسي محرم بكل حال، لكن لو احتاجت المرأة إلى العلاج من مرض يضرها فإن هذه المشقّة تجلب لها تيسيرًا يباح لها بموجبه أن تنكشف لغير زوجها للعلاج، ويراعى في ذلك قاعدة: الضرورة تقدر بقدرها.

3- بيع الدم محرم كما نص على ذلك القرآن الكريم، والله تعالى إذا حرّم شيئًا حرّم ثمنه، فإذا احتاج إنسان لنقل الدم إليه، ولم يجد من يتبرع به إلا بعوض جاز له شراء الدم ودفع العوض، ويكون الإثم على الآخذ.


(5) قاعدة : "اليقين لا يزول بالشك"


- معناها: إنَّ الشيء المتيقّن ثبوته لا يرتفع إلا بدليل قاطع، ولا يحكم بزواله لمجرّد الشك.

- ودليلها قول النبي صلى الله عليه وسلم:( إذا وجد أحدكم في بطنه شيئًا فأشكل عليه فلا يخرجنّ حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا ) .

- ومن التطبيقات المتعلّقة بهذه القاعدة:

1- لا يجوز شرعًا الحكم بموت الإنسان – الموت الذي تترتب عليه أحكامه الشرعية بمجرّد تقرير الأطباء أنّه مات دماغيًا حتى يعلم أنّه مات موتًا لا شبهة فيه تتوقف معه حركة القلب والنفس مع ظهور الأمارات الأخرى الدالة على موته يقينًا؛ لأن الأصل حياته فلا يعدل عنه إلا بيقين. ومع ذلك يجوز رفع أجهزة الإنعاش إذا تعطّلت جميع وظائف دماغه تعطلاً نهائيًا وقررت لجنة أن هذا التعطّل لا رجعة فيه.

2- من اكتملت أعضاء ذكورته أو أنوثتها لا يجوز تحويله إلى النوع الآخر، أما من اجتمعت في أعضائه علامات النساء والرجال فينظر فيه الغالب من حاله، ويعالج طبيًا بما يزيل الاشتباه، سواء كان علاجه بالجراحة أو الهرمونات.


الى اللقاء في الجزء الثاني ،،،

تعليقات: 0